الأحد، 12 يوليو 2009

كــنــا معــهــم فــي مــدن الطــيــن !!!


مقال راااائع جدااااً ..للكاتب المصري محمد عبدالعاطي

كتبه بعد عودته من رحلته إلى حضرموت ..

اتمنى ان تستمتعوا بقرائته ..وان تعيشوه كما عشته أنا

_________________________

ما إن تطأ قدماك وادي حضرموت حتى ينتابك شعور غريب وعجيب .. شعور من سقط من القرن الواحد والعشرين إلى القرن السابع أو العاشر الميلادي..



العمارات الأسمنتية التي جثمت فوق أنفاسنا اختفت .. الضوضاء التي صمَّت آذاننا تلاشت .. التلوث الذي أرهق أجسادنا لم يعد له وجود .. ثم موجات القلق التي أغرقت مشاعرنا ووجداننا استحالت فجأة إلي إحساس بالأمن والسكينة .. هل هو تصديق لنبوءة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حينما بشَّرَنا أن هذا الدين سيعم الآفاق وينشر معه أجواء الحب والاطمئنان حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه..؟

المهم أني في حضرموت شعرت بكل ذلك .. الزيارة كانت لمشاهدة أول ناطحات سحاب عربية بُنيت من الطين منذ مئات السنين ..!!



أول من ركب الجمل :

وقبل الانطلاق إلى هذه الرحلة وأثناء تحضيري لها قرأت في تاريخ حضرموت أن الإنسان الحضرمي القديم هو أول من روًّض الجمل ذي السنام الواحد واستخدمه في حطّه وترحاله ، وتساءلت حينما رأيتني أبحر آلاف السنين وأنا أتتبع تاريخ هذا الوادي العريق الذي له فضل عظيم على نشر الإسلام في ربوع المعمورة تساءلت عن سر بقائه منذ أن تحدثت عن حضارته التوراة قبل ثلاثة آلاف سنة إلى الآن .. ورأيت في كلمات الدكتور محمود الغول إجابة شافية ".. إن السبب في بقاء وادي حضرموت محتفظًا بشخصيته طوال هذه القرون، رغم أن تعداد سكانه في الوقت الراهن لا يبلغ نصف مليون نسمة هو قدر الحضارة التي استطاع الحضارمة أن يَتَحَلُّوا بها رغم التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي

مرت على الوادي؛ لأن – والكلام للدكتور الغول – السلطان والجبروت يزول بمرور السنين ولا يصمد للبقاء إلا الحضارة ..".



بلد الطِّيْب والبخور.. وعلي أحمد باكثير:

وقد عرف العالم القديم حضرموت عن طريق الطيب والعطر والبخور الذي كان ومايزال الوادي يصنعه من منتجاته الزراعية التي نمت وازدهرت حول السدود والينابيع المشهورة، وبالأخص سد "الخلقة" القريب من قبر نبي الله هود -عليه السلام-، ونبع وادي غنيمة الذي كان من أهم ممتلكات آل باكثير الذي ينتمي إليهم أديبنا الإسلامي المعروف علي أحمد باكثير.

ووقتها كنت أتعجب.. اللغة.. مالاوية.. والوجوه غير عربية.. لكن الروح حضرمية.. هذا ما رأيته بنفسي أثناء زيارتي لمنطقة جنوب شرق آسيا قبل عامين، ولكن بعد أن عرفت أن التجار المسلمين الحضارمة كانوا يسافرون إلى تلك البلاد في رحلات بحرية تستغرق الواحدة منها ستة أشهر تحمًّلوها بغرض الربح الدنيوي من جهة، والربح الأخروي عن طريق دعوة هؤلاء الآسيويين للإسلام من جهة أخرى لم أعد أستغرب تلك الروح الحضرمية المسيطرة على المسلمين الملاي..


مدن الطين..!!

وصلنا إلى ربوع الوادي.. وهناك .. وقعت عيوننا عليها .. وقف كل واحد منا يتأملها وهو لا يكاد يصدق .. ناطحات سحاب عربية ..‍‍!! .. ومبنيَّة من الطين منذ مئات السنين ..؟!

نعم هذه هي الحقيقة والتي من أجلها جاء المعماريون من مختلف أنحاء العالم يوم 1/3/2000، وعقدوا مؤتمرهم في رحاب جامعة حضرموت، ووجهوا نداءهم للعالم من أجل الحفاظ على المدن الطينية .. وكنا معهم هناك .. وسعتنا مدن سيئون وتريم وشبام ..بعماراتها التي تتجاوز العشرة طوابق وبقصورها التي ظلت محتفظة ببهائها وجمالها عبر مئات السنين .. وكلها مبنية من "الطين" .!!


سألنا المعماريين.. لماذا الطين ؟

فقالوا : قبل الإجابة لابد أن نعرف ما هو هذا الطين .. وأحالوا الجواب إلى المهندس صالح عبدالله الذي قال: إن الطين أساساً ناتج عن تحلل الصخور النارية، وهو لذلك مركَّب من دقائق صغيرة متبلورة من سيلكا الألومونيوم، ومن خواصِّه الطبيعية اللزوجة عند إضافة الماء إليه، أما لون الطين فيعتمد على المركبات المعدنية التي فيه؛ ولذا نراه يتدرج من الأبيض الفاتح إلى البني الغامق، ويبلغ وزن الطين ما بين 1400 إلى 1800 جرام في المتر المربع حسب درجة التماسك .

ويتابع المهندس صالح تعريفه بخواص الطين فيقول: إنه من أفضل المواد العازلة للحرارة ويتكون النقي منه أو ما يطلق عليه الصلصال من حوالي 46.5 % من سيلكا الألومونيوم ( ثاني أكسيد السيلكون )، و39.5 % من ثلاثي أكسيد الألومونيوم، بالإضافة إلى حوالي 14 % من الماء، فهو تشكيل معقد من السيلكون والألومونيوم والهيدروجين .

عازل للحرارة :
ونترك كيمياء الطين إلى ما هو أسهل، ونتوجه إلى المعماري سالم خميس لنسأله عن الخواص التي تميز العمارة الطينية عن الأسمنتية فيقول: عرف الإنسان مميزات الطين، فحافظ على استعماله ليس في اليمن فقط ولكن في العديد من دول العالم، إذ أثبتت الإحصائيات أن أكثر من مليار من البشر يستعملون العمارة الطينية؛ لأن الجدران الطينية تعتبر عازلاً جيداً للحرارة والبرودة، فلا تسمح بسرعة انتقالها من غرفة إلى غرفة، كما أن هناك سهولة في التعامل مع الطين أثناء البناء فيسهل تشكيله وزخرفته بما يتناسب مع قيمنا الإسلامية في المعمار .

أما الدكتور سالم محمد مبارك فيلفت نظرنا إلى بُعْدٍ نفسي للبيوت الطينية فيقول: إن البحوث التي عُرضت في المؤتمر الدولي المذكور أثبتت أن الطين له تأثير نفسي إيجابي على الإنسان ربما لأنه نشأ من الطين وسوف يعود إليه تارة أخرى .

قبل وبعد الإسلام : وراح الباحث جعفر السقاف يُحَدِّث الحضور عن العمارة الطينية في شبه الجزيرة العربية قبل وبعد الإسلام، فذكر أن الفن المعماري الطيني بوادي حضرموت على سبيل المثال مرَّ بمراحل متعددة وأطوار مختلفة قبل وبعد الإسلام، حيث رأينا في آثار العمارات الطينية التي بنيت قبل الإسلام أنها كانت تتزين بنقوش تمثل صور الحيوانات المختلفة مثل الوعل والبقر والغزلان والجمال، وأحياناً كانت المعارك تُوَثَّق بالنقش على الجدران الطينية، وحتى مطاردات الإنسان للأسود وعبادته للأصنام كانت تنقش على تلك الجدران، أما بعد مجيء الإنسان وتهذيبه للفطرة الإنسانية، فقد تميز الطابع المعماري الطيني بمؤثرات إسلامية ظهرت واضحة جلية في المنائر والقباب والأربطة، واتخذت أشكالاً هندسية من المثلثات والمربعات والسداسيات، والأشكال المخروطية والمستديرة وكثرت أشكال الهلال الذي يعتبر رمزاً للعمارة الإسلامية .

هذا عن التطور في الشكل والزخرفة المعمارية، أما عن تطور المواد المستخدمة في الخلطة الطينية فقال: إنها كذلك تطورت من حجر يُنحَت مع الكلس المستعمل لربط الحجارة والتشييد والتزيين إلى طين يُحرق بعد مزجه بالتبن المأخوذ من بقايا الشعير والبُرّ .



لأنك لم تكن معي :
هكذا استمرت أعمال المؤتمر وهكذا مرت أيامه .. متعة معرفية أنستنا حرارة الجو.. ومتعة بصرية لم نشعر معها بمرور الوقت ..
وقبل أن أتركك عزيزي القارئ أرجوك إذا نظرت بجوارك الآن ورأيت عيناك تصطدم بجدار إسمنتي فأعد قراءة الموضوع قبل أن يعتصرك الألم لأنك لم تكن معي في .. المدن الطينية ..!!.

ليست هناك تعليقات: